مذكرات ربطة بقدونس | قصة قصيرة من سوريا بقلم (عمَّار عبَّاس محمود)

كانت دهشتي مشابهة لدهشة أحدكم، إذا سأله مذيع التلفزيون الرسمي عن رأيه في أوضاع البلاد؛ فقام بشكر الجهات المعنية على الحياة المريحة والكريمة التي توفرها للمواطنين.. ولكنّه تفاجأ في اليوم التالي باعتقاله، لأنه قام ب "التملق" والكذب في حديثه على التلفاز..

مذكرات ربطة بقدونس | قصة قصيرة من سوريا بقلم (عمَّار عبَّاس محمود)

قصة بقدونس

لا تُغلقِ الكتابَ رجاءً.. أنا أعلمُ شعوركَ الآن بعد رؤيَتك للعنوان..

فأنتم تقولونَ أن محتوى الكتاب يظهر من عنوانه، وهذه إحدى المعتقدات الخاطئة التي لديكم أنتم البشر.. ونحن نعلم ذلك من خلال تجربتنا؛ حيث يقومُ التاجر بوضع الأفضل بيننا والأكثر نضارة على الواجهة، أما ما خَفِيَ فكان أعظم.

المهم، أنت تشعر الآن أنك دخلت إلى قاعة السينما، وحين بدأ عرضُ الفيلم ظهرت لك ربطةٌ مِن البقدونس تحتلُّ الشّاشة.. فأسرعتَ محاولاً الهروبَ من القاعة..

أي افتتاحية سينمائية تلك؟!!!

أيّ  ملل قادم في هذا الفلم!!!

لكن مهلا.. مهلا، ليعود كل منكم إلى كرسيّه..

ستتحول ربطة البقدونس الشمطاء هذه إلى زهرة لوتس آسرة؛ والفضل في كل ذلك إلى رجل قصير القامة، سأروي لكم قصتي معه.

اسمهُ "حبيب"..

تعلمت منه أن لكل خائن حبيب..

قد أعجبني ذلك الاسم كثيرا.. عندما حدثني عن ذلك الشاب الذي قام بعملية اغتيال أحد الرؤساء الخائنين لبلادهم..

طبعاً هو من جعلني أدرك ما معنى الخيانة، فنحن حياتنا أقصر من أن نتعلم الخيانة.

صديقي موزع جرائد في مدينة صغيرة، ينتقل صباح كل يوم بين مكتبات المدينة على دراجته الهوائية، مرتديا سروال "الفدائيين" كما قال لي بلونه الرمادي وقماشه البالي..

يبلغ من العمر ما يقرب الستين عاما، وقد نشأت بيني وبينه علاقة غريبة من نوعها؛ فهو الوحيد من بين أبناء جنسكم الذي يبادلني الحب بهذه الطريقة..

أتطلقون عليها "الحب العذري" ؟!!!

هو الوحيد الذي ينظر إليّ نظرة المفتون بالجمال..

من أنا ؟!

أنا ربطة بقدونس، كنتُ معروضةً في سوقِ الهال، حيث اشتراني حبيب منذ عدة أيام وحملني إلى منزله..

وبدلا من غسلي ووضعي في الثلاجة منتظرةً حد السكين، قام بوضعي بإناءٍ زجاجي حدثوني عنه في السوق، وقالوا لي أنكم تضعون فيه الزهور الجميلة كالجوري وغيره...

كنتُ مدهوشة في البداية؛ حيثُ وجدت نفسي داخل إناء جميل على إحدى النوافذ في منزل ذلك الرجل الذي يحدق بي ويبتسم بطريقة بلهاء..

كانت دهشتي مشابهة لدهشة أحدكم، إذا سأله مذيع التلفزيون الرسمي عن رأيه في أوضاع البلاد؛ فقام بشكر الجهات المعنية على الحياة المريحة والكريمة التي توفرها للمواطنين.. ولكنّه تفاجأ في اليوم التالي باعتقاله، لأنه قام ب "التملق" والكذب في حديثه على التلفاز..

ولكن بما أن كل الكائنات قد فُطرت على محبة من يحنو عليها ويعاملها بشكل استثنائي؛ أحببتُ حبيبا.

وهكذا، أضحيتُ بطريقةٍ عجيبة صديقته..

يشرب بجانبي قهوة الصباح قبل ذهابه إلى العمل، وعندما يعود ويفرغ من غدائه يأتي إليَّ ويحدق بي طويلا، ويحدثني بأمور لا أفهمها.

تعلَّمت في هذه الأيام القليلة الكثير عن حياتكم التعيسة، وعن جوعكم وفقركم، كما أني عَلمتُ أنّي أصبحتُ حلم الكثير من العائلات في ظل هذا الغلاء كما يقول "حبيب" السجين السابق.

وكما شرح لي، فالسجن هو مكان معزول لا تدخلُهُ الشمسُ؛ تستخدمونه لعزل البشر المذنبين والأبرياء معا !

ما هذه القسوة ؟!

كيف يمكنكم حرمان بعضكم من أشعة الشمس والهواء ؟!

نحن النباتات كنّا سنموت في اليوم التالي لوضعنا في ذلك المكان القاسي.. ولكنّي أدركت أن لعنةً أصابتكم، تدعى لعنة "الاعتياد"..

لا تستغربوا.. فقد قرأ لي حبيب قولَ الكاتب الروسي فيودور دوستوفيسكي :

الإنسان كائن قادر أن يتعود على كل شيء، ولعلّ هذا خير تعريف يمكن أن يُعرَف به الإنسان

 

كما علمتُ في هذه الليالي التي قضاها رفيقي ساهرا معي أنه وقع في غرامي في السجن أو المعتقل، فأنا -كما قال لي- لا أتعدى كوني إحدى مكونات (التبّولة)، وأنه أكلها في "المدينة الموحشة" موطنها الأصلي..

لا تستغربوا، ف "بيروت" حين كان حبيب يقاتلُ فيها كانت تُدعى بذلك الاسم؛ وقد كان وقتها لا ينظرُ إليّ إلا كما تنظرون أنتم؛ نوع من أنواع الخضروات..

ولكن في المعتقل تبدل كل شيء؛ تحولت أنا ربطة البقدونس القبيحة إلى أجمل الزهور والنباتات؛ حيث لعبتُ دورَ البطولة في مسرحية هزلية كان يقوم بها هو ورفاقه في المعتقل، فكانوا بدلا من تناولي، يضعوني في كأس شاي كبير لَعِبَ دَوْر الإناء الذي يحويني الآن، ويقومون بتحويل إحدى الجدران بقليل من الماكياج إلى نافذة يضعوني عليها.. فتحولت من باقة أعشاب خضراء لا جمال فيها إلى زهرة لوتس جميلة.

 

قصة بقدونس

نعم، هو الظلام وحده وأسالبيه المتقنة في الشعوذة، قادر على كل شيء..

أدركتُ أنكم تعيشون في ظلام دامس، كذلك الظلام الذي تحدث عنه الكاتب الذي قرأ لي حبيب كتابه؛ كان اسمه "ممر الفئران"، ذلك الظلام الذي يجعلكم تأكلون كل من يرى النور فيكم..

"حبيب" معجب جدا بالدكتور أحمد خالد توفيق، وأنا أيضا معجبة به.. ألم يكتب أي شيء عن البقدونس ؟!

لابد أنك تقول أن ربطة البقدونس هذه مؤدلجة بطريقة كبيرة.. الأيدولوجيا هي أيضا مصطلح غريب علينا...

كما قلتُ لكم سابقا؛ إن حياتنا أقصر من إن نتعلم هذه المصطلحات الكبيرة..

أُدرك الآن أن اللعنة الكبرى التي حلت على البشر هي طول أعمارهم، مما جعلهم يخترعون كل تلك القضايا والمصطلحات الكبيرة لكي ينجو من ملل الليالي الطويلة..

أين كنا ؟؟

اعذرني.. فقد تعلمت من حبيب أن أتنقل في الكلام بين موضوع وآخر، وتلك العادة كانت من أسوءِ العادات لديه، ولكني عَذرتُهُ على ذلك الجوع الذي يشعر به تجاه الكلام حينَ علمت انه طيلة سنوات عشر في المعتقل لم يتبادل تحية الصباح مع رفاقه إلا من خلال رموش العين..

المهم، أنت كنت تتهمني بالتحيز.. ولكن اتهامك هذا باطل؛ فأنا لم أرَ طوال هذه الأيام إلا حبيب، ولم أستمع إلا لحديثه، حيث أن لا أحد يزوره.. حتى عائلته...

إنه أعلمني أن عائلته لا تزال تخاف من التواصل معه، بالرغم من مرور أكثر من عشر سنوات على خروجه من سجنه، وهذا مصطلح آخر تعلمته.. "الخوف".

إنكم تخافون بطريقة  مثيرة للرعب حقيقةً، حتى أنكم تخافون من أنفسكم.. هي لعنة أخرى أصابتكم.

بدأت الآن أذبل، و قد تحولت أوراقي إلى اللون الأصفر.. والحمد لله على ذلك، فقد مللت حديث حبيب الطويل عن كل شيء.. كما قلت لكم اكتشفت أنكم لا تستطيعون الحديث لبعضكم عن كثير من الأمور المهمة  في حياتكم، ولا حتى لزوجاتكم أو إخوتكم..

فحياتكم تعيسة جدا، أجمل ما فيها ذلك الصوت الأنثوي الرخيم الذي استمعت إليه كل ليلة مع حبيب.. قال لي أنها "أم كلثوم".. ما أجمل  صوتها الرخيم...

أنا مجبرة على شكركم نيابة عن كل جنس النباتات لخلقكم للموسيقى؛ فهي كما رأيت خلال هذه الأيام؛ الشيء الوحيد الذي تستحقون الشكر عليه.

قام حبيب البارحة بتوديعي، أعتقد أنه سيستبدلني غدا ب"ربطة" جديدة تعاني ما عانيت من حكايات السجون والقهر اليومي، وانتظار الحبيبة التي فارقها حين نادته فتاة تدعى فلسطين، فارتدى لباس الفدائيين الذي لم يبدله إلى اليوم.

أما أنا، فأحببت أن أروي لكم هذه القصة، كي تتوقفوا عن تحويل حياة حبيب والملايين من البشر غيره إلى مسرحية كئيبة مجنونة، يضطر فيها للحديث عن أحلامه إلى ربطة بقدونس مثلي..

مع كل التمنيات بقصر العمر.

                                                            صديقتكم المحبة 

                                                                   ر . ب

تَمَّت

هذه الكلمات تُعبِّر عن كاتبها

اقرأ أيضا

أَرفُض رجوعك | شِعْر بالعامية المصرية ل(رمضان عبد السلام)

فيلم الجحيم Inferno | أفكار عن الفيروسات واليمين المتطرف ونهاية العالم

ملف المستقبل | عندما عشنا مغامرات الخيال العلمي في أيام الطفولة الأولى

كهوف تاسيلي الغامضة | قصص من الخيال تحكيها رمال الصحراء في شمال إفريقيا